Tuesday 31 May 2011

الزمن جنديٌّ من جنود الثورة

الزمن جنديٌّ من جنود الثورة
(1 من 2)
مجاهد مأمون ديرانية

نحن والنظام مع الزمن لسنا سواء، فنحن نملك مشروعاً له صلاحية مفتوحة لا يحدّها تاريخ، تماماً كالماء والهواء، وهو يملك مشروعاً محدود الصلاحية، مثل اللحوم المبرَّدة التي تبقى أسابيع ثم تَبلى فتُرمى للكلاب.

الشعب يستطيع أن يستمر في المظاهرات والاعتصامات والإضرابات سنة وسنتين وثلاث سنين. قد يفقد في السنة عشرة آلاف شهيد، لكنه -مع ذلك- يستطيع الاستمرار، وقد يُعتقَل من أحراره عشرة آلاف أو عشرون ألفاً أو ثلاثون، لكنه يستطيع الاستمرار، أما النظام فالوقتُ الذي يملكه محدودٌ وهو يتآكل على الدوام. إن المهلة التي يمكن أن يُعطاها من المجتمع الدولي محدودة، ولا بد أن تنفد وينقلب عليه المجتمع الدولي. وقدرة إعلامه (المهترئ أصلاً) على تبرير جرائمه وحماقاته محدودة، وقد انفضّ عنه أكثر الناس في الداخل والخارج ولم يبقَ من سامع له أو متابع إلا القليل، وهؤلاء ينفضّون عنه واحداً بعد واحد، ويقترب حثيثاً اليومُ الذي لن يغنّي فيه هذا الإعلامُ إلا لنفسه. وقدرته على ضبط عناصر أجهزته لن تدوم، بل إن قدرة قادته وكبار مجرميه على الصمود تتلاشى مع استمرار الضغط واستطالة الزمن.

فكروا في مسؤولي وقادة النظام. إنهم يخوضون معركة بقاء أو فناء، فهم حرقوا مراكبهم من عقود حينما قطعوا بالشعب كلَّ علاقة إنسانية ولم يُبقوا سوى علاقة القهر والحديد والنار، ويعلمون أن الشعب لن يقبل بالتوقف في منتصف الطريق. لذلك ترونهم يحاربون بتلك الشراسة، لأنهم أيقنوا أنهم يخوضون حرباً ينتصرون فيها أو ينتهون إلى واحد من مصيرين: إما أن يفروا من البلاد أو يواجهوا محاكم المنتصرين. وهم لن يخشوا الانتقام الظالم، بل سوف يخافون من محاكم العدالة التي لا بد أن تنتهي بالمئات منهم إلى أعواد المشانق!

هؤلاء المجرمون ينامون والحبل مُلْتَفٌّ حول أعناقهم، ثم يستيقظون وقد اشتدت عقدة الحبل حول الأعناق ضيقاً. لقد كانوا أمس في بلاء فصاروا اليوم في بلاء أشد وأنكى، وسوف يكونون أعظمَ بلاءً في الغد وفي غداة الغد. إنهم إذا أمسوا يخشون ما سوف يأتيهم به الصباح، وإذا أصبحوا يخشون ما سوف يأتيهم به المساء، وإذا انقضى أسبوع لم يعرفوا ما يحمله الأسبوع الآتي بعده، فأنّى لهم الراحةُ ومن أين يأتيهم الاطمئنان؟

إنهم ما يزالون يجرّبون الأسلوب بعد الأسلوب ويراقبون نتائج حملاتهم بتوتر وقلق، فلا تأتيهم إلا بالمزيد من التوتر والمزيد من القلق. إنهم كالمريض المُدنِف الموشك على الموت، يجرّب الدواء الأول ويلبث ينتظر نتيجته فيجد المرض قد زاد، ويجرب دواء آخر وينتظر قليلاً، ثم دواء ثالثاً ورابعاً، والمرض أبداً في ازدياد، ألن يتسرب اليأس أخيراً إلى قلبه؟ ألن يقتله القلق والهَمّ والوهم قبل أن يفتك به مرضه؟

هل يمكنكم أن تتخيلوا حجم الضغط النفسي الذي يعاني منه مَن كانت هذه حاله؟ لذلك نقول إن الزمن جندي من جنود ثورتنا المباركة. الزمن في صالح الثورة وفي صالح الشعب، وكلما مر يوم ونحن صامدون اقترب عدونا من الانهيار والاستسلام، فكل إنسان يملك طاقة محدودة على المقاومة لا بد أن تنفد مع الوقت، وإنما النظام -في الحقيقة- جماعة من الناس يصيبهم ما يصيب الناس من تعب ورَهَق. فاثبتوا واصبروا، وإنكم إن شاء الله لَمنصورون.

قبل أسابيع نُشرت عن رئيس اليمن أنباء تقول إنه لا يكاد ينام من الليل إلا قليلاً وإنه على حافة انهيار عصبي، فما بالكم إذن بقادة النظام القمعي في سوريا؟ أتظنون أنهم ينامون كما تنامون أو أنهم يهنؤون بطعام كما تهنؤون؟ لا والله لا يفعلون، بل هم في شغل عن المنام وعن الطعام بما يخشونه من حمل مرعب في رحم الأيام. فاستمروا في الضغط يا أبطال الشام، لا تتوقفوا وامضُوا إلى الأمام، فإنما هو واحد من اثنين: نصر عظيم أو موت كريم.
_________________________________ 


الثورة السورية: عِبَر وفِكَر (5)
28 أيار 2011

الزمن جندي من جنود الثورة
(2 من 2)
مجاهد مأمون ديرانية

لو فكرتم في حرب المظاهرات التي نخوضها مع أجهزة الأمن فسوف تدركون أن المتظاهرين يستطيعون أن يخوضوا هذه الحربَ إلى ما لا نهاية، أما عناصر الأمن فإنهم يقتربون بمرور الأيام من الانهيار.

أولاً يتفوق المتظاهرون في العدد، فهم يستطيعون أن يحشدوا في الشوارع مئات الآلاف فيما يبقى في البيوت الملايينُ من "عناصر الاحتياط"، ويستطيعون أن يبدّلوا عناصرهم فيرتاح قوم ويتظاهر آخرون بالتناوب، أما عناصر الأمن فإنهم مستنفَرون جميعاً ولا يُسمَح لهم بالراحة. ثم إن المتظاهرين يملكون مفاتيح الزمان والمكان، فهم قادرون على التظاهر في حي أو حيّين من المدينة، في حين يضطر الأمن إلى توزيع قواته وعناصره على الأحياء كلها لأنه لا يعلم أين ستخرج المظاهرات. وأخيراً فإن المتظاهرين يمكن أن يخرجوا عصراً أو عشاء أو بعد منتصف الليل، بل يمكن أن يخرجوا يوماً ولا يخرجوا يوماً آخر، ولكن الأمن لا يعلم متى سيخرج هؤلاء العفاريت، فلو سرّح قواته وسمح لهم بإجازة ساعة في اليوم فقد تخرج المظاهرة في تلك الساعة، ولو أراحهم يوماً في الأسبوع فربما خرجت المظاهرات في ذلك اليوم. وهكذا يضطر عناصر الأمن إلى المرابطة في الشوارع متأهبين للحركة ليلاً نهاراً سبعة أيام في الأسبوع، أما المتظاهرون فإنهم يمكن أن يتظاهروا في الأسبوع عشر ساعات، وسائر ساعات الأسبوع ينفقونها في أشغالهم وفي بيوتهم، يمارسون حياتهم الطبيعية وينامون ويأكلون ويشربون.

ولم يكفِ عناصرَ الأمن ما بهم من بلاء حتى اخترع المتظاهرون في المدن السورية اختراعاً جديداً سمّوه "المظاهرات الطيّارة"، فتخرج ثلة منهم إلى شارع من الشوارع ويبدؤون بمسيرة صاخبة بالهتافات، ويسمع عنها عناصر الأمن -من مخبريهم وعيونهم المبثوثة في كل مكان- فيُهرعون إلى موضع المظاهرة، فإذا هي قد تفرقت واختفى الناس فلا يجدون أحداً. ثم يصلهم الخبر عن أخرى في حي آخر، ويركضون فلا يجدون أحداً، وهكذا لا يزالون يقفزون من شارع إلى شارع ومن حي إلى حي حتى ينقضي شطر الليل وما ظفروا بأحد، فلا يرتاحون ولا ينامون، وأصحابنا شارك كل منهم في "نزهة قصيرة" ثم ذهب إلى سريره فنام فيه قرير العين!

ثم لم يكْفِهم هذا الاختراع وما كادوا يمتصون الصدمة الأولى حتى طلع عليهم الشعب الثائر المبدع باختراع أشد هولاً وأعظم أثراً، فأنساهم الهمُّ الجديد سائرَ ما كانوا فيه من هموم، وبات ذلك الاختراع يدفعهم في طريق الجنون! وما هذا الاختراع الجديد؟ ليس سوى أن يجلس الناس في بيوتهم ويبدؤوا بالتكبير، الرجال منهم والنساء والكبار والصغار، فترتَجّ الشوارع بالنداء السماوي الذي يرتقي معه المكبّرون بأرواحهم المعنوية إلى عنان السماء، فيما تنحدر معنويات العناصر الأمنية إلى قرارات الأرض، وما تزال التكبيرات تنزل على رؤوسهم كالمطارق حتى تُتلف أعصابهم وتصيبهم بالانهيار بإذن الله.

وأخرى بالنسبة للأمن أسوأ من كل ما سبق. المتظاهر لا يعمل موظفاً عند أحد، فهو يخرج إلى المظاهرة لأنه قرر الخروج فيها مختاراً غيرَ مُكرَه، وهو يستمتع بكل خطوة يخطوها وكل هتاف يهتفه، فمع كل متر يقطعه على الأرض يقطع مئة متر في طريق الحرية الذي طالما اشتاق أن يمشي فيه في الماضي ولم يستطع، وكلما فتح فمه ليهتف تدفقت إلى رئتيه نسائمُ الكرامة التي طالما حنَّ إليها ولم يجدها. فإن مشى مئة متر ورجع إلى بيته لم يَلُمْه أحد، وإن أكمل مع المسيرة ميلاً وعاد لم يسأله أحد، وهو إن شاء هتف وإن شاء لم يهتف، وإن أحب أن يحمل يافطة أو لوحة حمل وإن لم يحب لم يحمل، هو ملك نفسه ولا سلطان لأحد عليه. أما عنصر الأمن فلا خيار له إلا الالتزام بالعمل والمداومة عليه بالليل والنهار، ولا يستطيع أن يقطعه لينام في بيته إن شاء أو ليرتاح، وهو إن قَصّرَ وفشل في عمله لامه رؤساؤه أو عاقبوه، وهم ليسوا فقط غِلاظاً شِداداً علينا، بل هم كذلك بعضُهم على بعض، وكما نسمع منهم نحن كل بذيء فاحش من القول ونرى كل قبيح عنيف من الفعل، فكذلك يسمع ويرى كلُّ صغير فيهم من كل كبير.

قبل عدة أشهر غضب الأردنيون على حكومتهم فدأبوا على تنظيم مظاهرات في قلب عمّان بعد صلاة الجمعة أسبوعاً بعد أسبوع، وكلما تظاهر الناس كان رجال الأمن هناك يحيطون بجانبَي المظاهرة ويحرصون على سلميّتها وسلامتها وتنظيمها، لم يضطروا إلى الاشتباك مع أحد ولا بذلوا جهداً يُذكَر (إلا أنهم بادروا في الأسبوع الأول إلى توزيع قوارير الماء على المتظاهرين!) ومع ذلك فقد أصدرت جماعةٌ منهم بعد أسابيع مناشَدةً إلى المتظاهرين يرجونهم فيها أن يختاروا يوماً غير الجمعة أو مكاناً غير وسط المدينة، ذلك أنهم -كما قالوا- يريدون أن يُمضوا مع أسرهم يومَ إجازة يرتاحون فيه ويتواصلون مع أولادهم وأهاليهم، وقد حُرموا إجازاتهم الأسبوعية بسبب تواتر المظاهرات في كل جمعة في المكان نفسه!

ذلك أمر حقيقي حدث في الأردن وقرأنا عنه، وهو يدلكم على التعب الذي يصيب عناصر الأمن من متابعة المظاهرات، هذا وهي مظاهرات صغيرة تمشي ميلاً ثم تنفَضّ ولا يُطالَب عناصر الأمن ببذل أي جهد حقيقي أمامها، فلا يركضون هنا وهنالك ولا يَعتقلون هذا ويَضربون ذاك... فتخيلوا إذن حال عناصر الأمن في شوارع سوريا، وهم مكلفون بمتابعة المظاهرات ساعات طويلة في كل يوم من أيام الأسبوع، وهم مكلفون بالركض والاعتقال والتنكيل بالمتظاهرين. وبعد ذلك كله يسمعون من رؤسائهم التبكيت والشتم لأن المظاهرات ما تزال تخرج ولأنهم يخسرون المعركة اليومية مع المتظاهرين!

النصر في هذه المعركة وراء باب الصبر، فأما نحن فصابرون، وأما هم: فإلى كم يصبرون؟

No comments:

Post a Comment