Tuesday 31 May 2011

القدس العربي : عذرا أدونيس - ماهر البرادعي

القدس العربي : عذرا أدونيس - ماهر البرادعي
عقد ربطة حذائه الرياضي، رغم شكه بتناسبه مع ما يرتديه. امتشق هامته الطويلة، وصوّب نظره إلى طاولة المكتب، حيث صورة للسيد حسن نصر الله، وأمامها بعض قصاصات ورقية.. قلّ...بها، وأعاد قراءة بعضها، وكأنه يتأكد من حفظها، ثم انسل عبر الصالة خلسة، وأغلق باب المنزل بهدوء شديد، وهبط على الدرج بسرعة، ك...أنه يجرب قدرته على الركض.
وصل إلى مدخل البناء، نظر ذات اليمين وذات الشمال. كان الهدوء المُطعَّم برائحة الياسمين يلفان الشارع، وتتحرك فيه الأشياء، وكأنها غير معنية ببركان يغلي من تحتها.
تجاوز كنيسة ' سيدة دمشق'، ودخل ساحة ' العباسيين'، وهو يدرك وجهته جيداً. حاول أن يوقف سيارة أجرة، إلا أن محاولاته كلها باءت بالفشل. غيّر وجهته، لعل المكان الذي يقف فيه لا يروق للسائقين. عند ' كازية العباسيين'، وقف رجل في الخمسين من عمره إلى جانب سيارة أجرة، ينتظر دوره، بادره بابتسامة، وسأله:
- فاضي.. بدي روح ع دوما..
نظره إليه الرجل متفحصاً، وسكت لزمن، ثم هزّ رأسه وأومأ له أن يصعد.
تحركت السيارة واتجهت نحو ' زملكا'.. توقفت بعض مرات أمام حواجز لرجال أمن مدججين بالسلاح، وكأنها منطقة عسكرية. كانت الأسئلة متشابهة، وحتى طريقة السؤال، بدءاً من بطاقة الهوية، وصولاً إلى الجهة المقصودة.. عند أحد الحواجز، سأل رجل الأمن السائق:
- ع وين رايحين يا معلم؟..
- ع وكالة ' كيا'.. بحرستا..
- وشو رايحين تعملوا هنيك؟..
- الشب رايح ع الوكالة..
- شو رايح تعمل بالوكالة يا حبيب؟..
نظر شادي إلى رجل الأمن، وهو يمسك ببطاقة، فخرجت الكلمات من بين شفتيه مرتجفة:
- رح طلع سيارة الوالد من الصيانة..
أعاد رجل الأمن البطاقة لشادي، وأشار للسائق أن يعبر. وبدا وجه السائق ذي السنوات الخمسين محمراً، والكلام في وجهه يكاد أن يخرج دون عناء، إلا أنه كان يضبط نفسه بصعوبة، وكلما عبر حاجزاً، تمتم ببعض العبارات، وختمها بعبارة ' اللهم اقلبها فرجا من غمة'.. ' اللهم اجعل كيدهم في نحورهم'.. وعبارات لا يفهم المرء منها من المقصود بهذا الدعاء!..
دخلت سيارة الأجرة مدينة ' دوما'، وأخذ السائق يقود سيارته عبر شوارع جانبية، إلى أن وصل إلى حي ' السرايا'، وبدأ يرى بعض الوجوه التي يعرف معظمها، لكنه يجهل أسماءها. هنا، منذ بضعة أسابيع، قابلهم فيها للمرة الأولى، بعد بحث مضن عن مكان، يُطلق فيه ما بحنجرته من صراخ مخنوق.
كان قد جال شوارع دمشق كلها، ولم يجد أحداً يرافق صراخه. أوقف يومها سيارة أجرة، وطلب من السائق المسير إلى اللامكان. بدا طلبه غريباً، إلا أنه استطاع إقناع الرجل بأنه يبحث عن أصدقاء خطفوا سيارته، على سبيل المزاح، وعليه أن يجدهم!..
تجوّل في شوارع ' عربين'، و' حرستا'، دون أن يجد ما يبحث عنه. وعند مداخل مدينة ' دوما' لمح مجموعة من الأشخاص تسرع الخطى، فظن أنهم من يبحث عنه. أمر السائق أن يتوقف. رمى له بعض النقود، فاحتج السائق، فزاده عما طلب، وغادره مسرعاً نحو الرجال، حتى أصبح يحذوهم بخطواته، ولم يدرك نفسه إلا وهو أمام الجامع الكبير بدوما. وقبل أن يتردد، دخله وهو الذي لم يدخل جامعاً بحياته، بل لم يفكر يوما أنه سيدخله.
توقف قليلاً وهو يشاهد الداخلين إلى الجامع يخلعون أحذيتهم، ففعل ما فعلوا، وهو في قرارة نفسه يقول: ' الذي لا يخاف الموت، ماذا يخيفه بدخول الجامع؟'.. وما كادت خطواته الأولى في الجامع تتجاوز عدد الأصابع، حتى أعلن المؤذن قيام الصلاة.
ارتبك، ونظر يميناً وشمالاً، فوجد الجميع يقف، ويرص صفوفه بعضها إلى بعض. دفعته الجموع، وأخذ يتقدم صفاً فآخر، حتى استقر بين رجل في الأربعين، تكاد لحيته تصل بطنه، وشاب رياضي ممتلئ، يرتدي ملابس رياضية.
كان على يقين بأن أحداً هنا سيخرج منهم رافعاً صوته بحرفي اللام والألف، بعد أربعين عاماً من تعلم الصمت.
بدأت الصلاة، وأخذ يفعل مثلما يفعلون. ينحنون فينحني معهم. يسجدون فيسجد. يقولون ' آمين'، فيردد معهم ' آمين'.. كان المشهد أشبه بطقوس الحرية، والمكان لم يكن مسجداً للصلاة فقط، بل جامع يجمع شعباً ضاقت به سبل التعبير، فابتكر مكانه الخاص للرفض.
كان كلما سجد حرك عينيه ذات اليمين، أو ذات الشمال، باحثاً بين جاريه عن قائد لصوته. تأمل خيراً بالشاب الرياضي، وأمل أن يطلق المبادرة الأولى.
انتهت الصلاة، فعَلَتِ الأصوات. كانت عميقة عمق الجامع، ومتفرقة على امتداد الجموع. دفعته الحشود خارجاً، وهو يلاحق الأصوات هنا وهنا، علّه يعرف مصدرها، فيجاريها.. ارتفع من خلفه صوت، التفت إليه فإذ به جاره الملتحي، وإلى جانبه الشاب ذو الملابس الرياضية، يرد على الهتاف بكل ما أوتي من قوة، حتى تكاد عروقه تبرز خارجاً:
' الشعب السوري ما بينذل'
دفع شادي من حوله، وهو يتحرك باتجاههم ويردد: ' الشعب السوري ما بينذل'. علت الأصوات، وتحركت الجموع، وبدأت تتكاثر شيئاً فشيئاً، وهو يحاذي الملتحي، والشاب ذا الملابس الرياضية، وهما يتناوبان على قيادة الحشد، والهتاف، حتى أتت لحظة أحس بها بأنهما تعبا، أو خفتت همتهما.
صرخ بأعلى صوته: ' سنة وشيعة وعلوية.. كلنا بدنا الحرية'. ردَّ عليه الحشد بأكثر مما كان يتخيل، فأعادها مرة أخرى. وقبل أن ينتهي، أحسَّ بيدين تحملانه، ويرتفع في الهواء، ليتربع على كتف أحدهم. نظر إلى الأسفل، فوجد الرجل الملتحي يقبض على قدميه، ويثبته فوق ظهره، ليشعر بأمان، وهو على كتفيه.
خرج الجمع بعيداً، وتلاقى العشرات بالمئات، حتى أصبحت الجموع أكثر من أن يعدهم، وكان ثلاثتهم يتناوبون على الهتاف، وقيادة الحشد، وهم لا يعلمون أسماء بعضهم البعض.
انتهت المظاهرة بقدوم رجال الأمن، وإطلاق بعض الطلقات النارية، في الهواء، ثم القليل من الغاز المسيل للدموع، وملاحقة المتظاهرين بالهراوات، وقد أصابته هرواة طائشة في كتفه الأيسر، وبقيت تؤلمه أياماً عديدة.
شادي، ابن الثلاثة وثلاثين عاماً، والذي ينحدر من عائلة ميسورة الحال، يقف اليوم مرة أخرى وسط مدينة دوما، في ريف دمشق. أمام المكان نفسه، ليمشي على قدميه، ويلتف على الحواجز الأمنية، عبر الأبنية، ويقفز فوق سور صغير، ليدخل إلى المكان الذي تعلم أن يفرغ فيه ما في جوفه من صراخ، وهو يعلم تمام العلم بأن أحداً ما يطلق النار على الصارخين بما في حناجرهم، بغرض قتلهم.. أي أن حرف اللام الذي تعرف أخيراً، على حرف الألف، منذ زمن بعيد، يخرجان ليشكلا كلمة واحدة، تجمع فيها قيمة الحياة على صغرها.
عبَرَ الشوارع، وهو يلحظ بعض رجال الأمن، ينتشرون هنا وهناك، على زوايا الشوارع. وصل إلى دوار ' البلدية'، ومنه إلى منطقة ' السرايا'. خطا بضع خطوات، فوجد بعضاً من الذين يعرفهم، بادرهم بالقول:
- انتبهوا.. المنطقة ملغومة.
هزَّ أولهم رأسه، دلالة معرفته، ورد:
- رح نطلع، لو آخر يوم بعمرنا..
بدأت الأعداد تزداد، حتى وصلت إلى بضع عشرات. كان بعضهم قد صنع يافطته الخاصة، من قصاصات ورقية، أو بقايا علب كرتونية، لمعرفتهم بأن تجار القماش مُنعوا من بيع أي قطعة قماشية، وخاصة البيضاء منها، دون أخذ بيانات المشتري.
تحرك المحتجون نحو المحكمة، أو ما كانوا ينادونه ' السرايا'، وأصواتهم تعلو شيئاً فشيئاً: ' سلمية سلمية.. كلنا بدنا الحرية'. كان شادي يسير مع الحشود، وكأنه يعرفهم، ويعرفونه. لم يكن بحاجة إلى وسيلة تعارف، فقد كانوا يلمسون من نبض صوته صادق مشاعره، وأن هتافه لا يخرج من شفتيه، بل من قلبه. إنه مثلهم جميعاً. شباب وقف أمام واقع مغلق، ومستقبل مجهول، فخرجوا ليقولوا: كفى.. لا نريد المزيد من هذه الحياة.
كان الحشد قد وصل إلى ' قهوة السرايا'، حين بدأ إطلاق نار ودخان كثيف، فرّق الجموع، حيث حاولوا الاحتماء من اطلاق النار، الذي لم يعرف أحد في البداية مصدره. أصبح شادي عند بوابة ' قهوة السرايا'، عندما أحس بشيء يكوي صدره، والهتاف يخرج من جوفه بعناء شديد. سحب أنفاسه، وأعاد الكرة كي يرتاح قليلاً، وتحرك نحو زقاق قريب، كي يتقي إطلاق النار، وما إن عبر خطوة داخل الزقاق، حتى خرج عليه اثنان؛ الملتحي وآخر، وهم يصرخان به، ولا يسمعهما.
اعتقد أنهم رجال أمن، لكن سرعان ما تكاثر الجمع حوله، من كبار وصغار، والكل ينظر إليه، ويسأله دون أن يدرك عما يتحدثون. وضع يديه عند صدره، حيث تألم منذ قليل، فشعر أن يديه مبللتان. نظر إليها فرأى يده البيضاء قد غطاها سائل أحمر قان.
عرف وقتها أنه قد أصيب، فعجزت قدماه عن حمله، وبدأ يتهاوى. وقبل أن يسقط، أمسكه الملتحي، وجلس على الأرض، واضعاً رأسه بين ذراعيه. التف الجميع حوله، وهم يشعرون أنه يغادرهم، فأخذوا يصرخون فيه: ' تشاهد.. تشاهد.. قل أشهد أن لا إله إلا الله'..
 
صرخ الملتحي بالشبان أن يحضروا سيارة، وأدار رأس شادي نحوه، وقال له:
- تشاهد.. يمكن تموت، وما نقدر نسعفك.. تشاهد..
كان شادي يحرك عينيه، بين هذا وذاك، وهو يشعر بضعف شديد، وثقل في رأسه، يدركه للمرة الأولى.. نظر إلى الملتحي، واستجمع بعض قواه، وقال له:
- إذا متّ.. خبروا أمي أني متّ حرّ..
غصت عينا الملتحي بدمعة، تكابر على الخروج، وتحركت شفتاه لتمنعها من الظهور.
- ولك إنت حر ابن حر.. ابن مين أنت؟.. وين أهلك؟..
صمت لبرهة، وهو يراقب شادي يجاهد ليبقي عينيه مفتوحتين، وأصوات من حوله تصرخ باستعجال سيارة لنقله، وإسعافه.
دنا الملتحي بفمه من أذن شادي.. وأخذ يرجوه:
- تشاهد.. الله يخليك.. تشاهد..
أعاد الكرة مرة، وثانية، وثالثة.. نظر شادي إليه، وهو يبدو بلحيته الطويلة، ووجهه المدور، كأنه خرج من أحد المسلسلات التاريخية، وتمالك نفسه، ورفع رأسه ليواجه الملتحي، وقال:
- أنا مسيحي.. مسيحي..
جحظت عينا الملتحي، وتصلب في مكانه، ثم أخذ يصيح:
- يرحم البطن يلي حملت بأمثالك.. عاش المسيح.. ولك نحنا أخوة كلنا.. الشعب السوري واحد.. والله واحد.. الله أكبر.
ولم يتمالك الملتحي نفسه، وخرجت دموعه دون استئذان، وهو يضم شادي بيديه العاريتين، والحشد حولهما يكبرون ويرددون: ' واحد.. الشعب السوري واحد'.
قصَّ شادي قصته لي، وكيف حمله الملتحي إلى بيته، ليخبئه، ويعالجه.. استأذنته أن أنشر القصة مع إغفال الأسماء ورغم تردده في البداية لكنه وافق أخيرا وكان كل ما يجول بخاطري وأنا أكتب هذه السطور، قلق أدونيس من مشهد الحرب الأهلية في سورية، وهو ما لا يتآلف مع هذا المشهد .. ربما صدم بروعة المفاجأة، إلا أن الحقيقة الأكيدة أنه يتوجب عليه أن يعيد قراءة المشهد السوري، من جديد، بعد أن ينزل من برجه العاجي إلى الأرض، حيث يتلقى شباب بعمر الورد، وبصدورهم العارية، رصاص أخوتهم، وهم يقبضون في قلوبهم الكبيرة نبضاً لفهم أعمق مما نعتقد

No comments:

Post a Comment